الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه إيَّاهم كذلك بقوله: {ربِّ العالمين} فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله: {ربِّ العالمين الرَّحمن الرحيم} مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمة، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه: {مالِكِ يوم الدين} إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله: {ربِّ العالمين} مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله: {مالك يوم الدين} المعنى الذي في قوله: {مَلِك يوم الدين} وهو وصْفه بأنه الملِك.فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ: {مالك يوم الدين} الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه.فإن ظنّ ظانّ أن قوله: {رَبّ العَالمين} نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة، يوجبُ وصْلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه: مَنْ مَلَكهم في الآخرة على نحو مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله: {مالك يوم الدين}- فَقد أغفلَ وظنَّ خطأ.وذلك أنه لو جاز لِظانّ أنْ يظنّ أن قوله: {ربّ العالمين} محصور معناه على الخبر عن ربوبِيَّة عالم الدنيا دُونَ عالم الآخرة، مع عدم الدلالة على أن مَعنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحجّة موجودة في المعقول- لجاز لآخر أن يظنّ أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله: {رب العالمين} دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحًا بما قد قدّمنا من البيان، أنّ عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده.فإن غَبِيَ- عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا- ذو غباء، فإنّ في قول الله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الجاثية: 16] دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمان، غيرُ عالم الزمان الذي كان قَبله، وعالم الزمان الذي بعدَه، إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران: 110]. فمعلوم بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا- مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم- أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه.وإذْ كان بيِّنًا فساد تأويل متأوِّلٍ لو تأوّل قوله: {ربّ العالمين} أنه معنيّ به أن الله ربُّ عَالمي زَمن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي سائر الأزمنة غيره- كان واضحًا فساد قول من زعم أنّ تأويلَهُ: ربُّ عالَمِ الدنيا دُون عالَمِ الآخرة، وأنّ {مالك يوم الدين} استحقَّ الوصلَ به ليُعلَم أنه في الآخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا.ويُسْأل زاعم ذلك، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله- في تأويل قوله: {رب العالمين} تحكَّم فقال: إنه إنما عنى بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمّد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله، والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول: أنه عَنى به عالمي الدنيا دُون عالمي الآخرة- من أصل أو دلالة.فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.وأما الزاعم أن تأويل قوله: {مالك يوم الدين} أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قَائلَ هذا القول الذي قبله- له لازم. إذْ كانت إقامةُ القيامة، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وُهمُ العالَمون الذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله: {ربّ العالمين}.وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ: {مالك يوم الدين} فإنه أراد: يا {مالك يوم الدين}، فنصَبه بنيّة النداء والدعاء، كما قال جل ثناؤه: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [سورة يوسف: 29] بتأويل: يا يوسف أعرضْ عن هذا، وكما قال الشاعر من بني أسد، وهو شعر- فيما يقال- جاهلي:
يريد: يا جزءُ، وكما قال الآخر: يريد: يا بني شابَ قرْناها. وإنما أوْرطه في قراءة ذلك- بنصب الكاف من {مالك} على المعنى الذي وصفتُ- حيرتهُ في توجيه قَوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وِجْهَته، مع جر: {مالك يوم الدين} وخفضِه. فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه: {مالك يوم الدين} فنصب: {مالكَ يوم الدين} ليكون {إياك نعبد} له خطابًا. كأنه أراد: يا {مالك يوم الدين}، {إياك نعبد وإياك نستعين}. ولو كان عَلم تأويل أول السورة، وأن {الحمدُ لله رَبّ العالمين} أمر من الله عبدَه بقيلِ ذلك- كما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس: أن جبريلَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره: قل يا محمد، {الحمدُ لله رب العالمين الرحمن الرحيم مَالكِ يوم الدين} وقل أيضًا يا محمد: {إياك نَعبد وإياك نَستعين}- وكان عَقَل عن العرب أنَّ من شأنها إذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبرَ عن الغائب ثم تعودَ إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلتُ لأخيك: لو قمتَ لقمتُ، وقد قلتُ لأخيك: لو قام لقمتُ- لسَهُل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر {مالك يوم الدين}.ومن نظير {مالك يوم الدين} مجرورًا، ثم عَوْده إلى الخطاب ب {إياك نعبد} لما ذكرنا قبل- البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي: فرجعَ إلى الخطاب بقوله: وبياضُ وَجْهك، بعد ما قد مضى الخبرُ عن خالد على معنى الخبر عن الغائب.ومنه قول لبيد بن ربيعة: فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.ومنه قول الله، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [سورة يونس: 22]، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وَجرَين بكم. والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.فقراءة: {مالكَ يوم الدين} محظورة غير جائزة، لإجماع جميع الحجة من القرّاء وعلماء الأمة على رَفض القراءة بها. اهـ.
وَعَلَى الْجَزَاءِ وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ، وَعَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى الْإِخْضَاعِ، وَعَلَى السِّيَاسَةِ؛ يُقَالُ: دِنْتُهُ، وَدَيَّنْتُهُ فُلَانًا بِالتَّشْدِيدِ أَيْ وَلَّيْتُهُ سِيَاسَتَهُ، وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الْإِخْضَاعِ، وَعَلَى الشَّرِيعَةِ: مَا يُؤْخَذُ الْعِبَادُ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَالْمُنَاسِبُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْجَزَاءُ وَالْخُضُوعُ وَإِنَّمَا قَالَ: {يَوْمِ الدِّينِ} وَلَمْ يَقُلِ {الدِّينِ} لِتَعْرِيفِنَا بِأَنَّ لِلدِّينِ يَوْمًا مُمْتَازًا عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلْقَى فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ وَيُوَفَّى جَزَاءَهُ.وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: أَلَيْسَتْ كُلُّ الْأَيَّامِ أَيَّامَ جَزَاءٍ. وَكُلُّ مَا يُلَاقِيهِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنَ الْبُؤْسِ هُوَ جَزَاء عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي عَلَيْهِمْ؟ وَالْجَوَابُ: بَلَى إِنَّ أَيَّامَنَا الَّتِي نَحْنُ فِيهَا قَدْ يَقَعُ فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى أَعْمَالِنَا، وَلَكِنْ رُبَّمَا لَا يَظْهَرُ لِأَرْبَابِهِ إِلَّا عَلَى بَعْضِهَا دُونَ جَمِيعِهَا. وَالْجَزَاءُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا ظُهُورًا تَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لَا إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، فَمَا مِنْ أُمَّةٍ انْحَرَفَتْ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ تُرَاعِ سُنَنَهُ فِي خَلِيقَتِهِ إِلَّا وَأَحَلَّ بِهَا الْعَدْلُ الْإِلَهِيُّ مَا تَسْتَحِقُّ مِنَ الْجَزَاءِ كَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَفَقْدِ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ. وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ الظَّالِمِينَ يَقْضُونَ أَعْمَارَهُمْ مُنْغَمِسِينَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، نَعَمْ إِنَّ ضَمَائِرَهُمْ تُوَبِّخُهُمْ أَحْيَانًا وَإِنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ، وَقَدْ يُصِيبُهُمُ النَّقْصُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَعَافِيَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُقَابِلُ بَعْضَ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، لاسيما الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الَّذِينَ تَشْقَى بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ أُمَم وَشُعُوب. كَذَلِكَ نَرَى مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَضْمِ حُقُوقِهِ، وَلَا يَنَالُ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَنَالُ رِضَاءَ نَفْسِهِ وَسَلَامَةَ أَخْلَاقِهِ وَصِحَّةَ مَلَكَاتِهِ، فَمَا ذَلِكَ كُلُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُوَفَّى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِينَ جَزَاءَهُ كَامِلًا لَا يُظْلَمُ شَيْئًا مِنْهُ، كَمَا قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [99: 7- 8] عَلَّمَنَا اللهُ أَنَّهُ رَحْمَنُ رَحِيم لِيَجْذِبَ قُلُوبَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَشْعُرُ كُلُّ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ فَيَنْجَذِبُوا إِلَيْهِ الِانْجِذَابَ الْمَطْلُوبَ؟ أَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَسْلُكُ كُلَّ سَبِيلٍ لَا يُبَالِي بِمُسْتَقِيمٍ وَمُعْوَجٍّ؟ بَلَى، وَلِهَذَا أَعْقَبَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ بِذِكْرِ الدِّينِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَدِينُ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ رَبَّاهُمْ بِنَوْعَيِ التَّرْبِيَةِ كِلَيْهِمَا: التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [15: 49- 50]. اهـ.
|